النيل والفرات
لقد باتت الجريمة بمختلف صورها وأشكالها المتجددة على رأس قائمة اهتمامات صناع القرار على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية لكونها المعضلة الدائمة التي تقلق طمأنينة المجتمعات كافة، تأخذ من مالها وجهدها، وتعكر صفوها وتعيق نموها وازدهارها.
ومما يدعو للخوف أن الجريمة تسجل كل يوم تطوراً جديداً في أنماطها واستحداثاً في أساليبها ومضاعفات في الخسائر الناجمة عنها وفي تكاليفها المالية.
لقد أصبحت الجريمة مهنة تستقطب مختلف الكفاءات والخبرات إذ أن عائداتها الاقتصادية المغرية باتت تنافس عائدات غيرها من المهن الشريفة، فبعد أن كانت الجريمة تأخذ أصبحت تدفع وتقدم عائدات مجزية للعاملين بها من الأشرار والمارقين على الأنظمة والقوانين.
ولخطورة هذه الظاهرة وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية انتقلت المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة بكثير من برامجها وسياساتها الجنائية إلى التصدي للجريمة المنظمة والجرائم الأخرى المتصلة بها مثل الاتجار في المخدرات والمعلومات، وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب.
ومن أجل ذلك عقدت عدة لقاءات ومؤتمرات علمية لمواجهة مخاطر الجريمة المنظمة، ومن أهم تلك اللقاءات، علم الإجرام الدولي الذي عقد في سيئول عام 1998م، ومؤتمر التحقيق في قضايا الجريمة المنظمة الذي عقد في جوهانسبيرح بجنوب أفريقيا عام 1998م، والندوة العلمية التي نفذتها أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية بالإسكندرية بالتعاون مع الأكاديمية العربية للعلوم والتقنية عام 1998م. وتعتبر هذه الحلقة العلمية التي يضم هذا الكتاب أوراق عملها تتويجاً للجهود السابقة لأنها تأتي بخلاصة ما توفر من نتائج وبرامج توصلت إليها تلك اللقاءات والمؤتمرات العلمية.
روعي في اختيار أعضاء الهيئة العلمية والموضوعات المطروحة في هذه الحلقة أن يكون اللقاء ترجمة لجذور وأبعاد مشكلة الجريمة المنظمة القائمة على منابع الثروة وحركة التجارة الدولية ومؤشرات الاقتصاد العالمي الممتدة من طوكيو إلى نيويورك وأوروبا والمنطقة العربية لما يربط بين هذه المناطق من مصالح اقتصادية مشتركة وحركة تجارية واسعة قد تكون منافذ سهلة تلج منها الجريمة المنظمة.
قدمت في هذه الحلقة العلمية ستة موضوعات وهي: الموضوع الأول: الجريمة المنظمة (تعريفها، أنماطها وجوانبها التشريعية): قدم هذا الموضوع الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم زيد -أستاذ القانون الجنائي والأمين العام للاتحاد الدولي للدراسات الأمنية، وقد تناول الجريمة المنظمة وجذورها محاولاً استنباط تعريف عبارة الجريمة المنظمة مستمداً من مختلف التشريعات في الدول العربية والأجنبية. وقد ربط الباحث الجريمة المنظمة بالعولمة ونظم المعلومات.
الموضوع الثاني: الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجريمة المنظمة ومحاولات مواجهتها إقليمياً ودولياً.
قدم الموضوع الدكتور محسن عبد الحميد، مدير إدارة التعاون الدولي في أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية. بدأ الباحث ورقته العلمية بتعريف الجريمة المنظمة وعرض العبارات المختلفة المستعملة في هذا الميدان، مشيراً إلى عدم دقة تعريف المصطلح (Transnational) بمصلح "عبر الوطنية د" أو "عبر الحدود" المستعمل في تقارير الأمم المتحدة موضحاً أن اصطلاح عبر الدول أكثر دقة في التعبير عن الواقع.
عرض الباحث حصراً لصور الجريمة المنظمة المتفق عليها على نطاق الأمم المتحدة، كما قدم الباحث عرضاً لإحصاءات حول المخاطر الاقتصادية التي تشكلها الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفق (45) بليون دولار في شراء المخدرات سنوياًن بينما تخسر الشركات الأمريكية (23) بليون دولار من جراء جرائم الغش التجاري وهو أحد عناصر الجرائم المنظمة.
ثم تناول الباحث الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجريمة المنظمة بدءاً بالخسائر المالية التي تخرجها الجريمة المنظمة عن النظام المالي مسببة الأضرار بالحرية الاقتصادية وحركة الأسواق واستقرارها وتحويل ميزانيات التنمية إلى مجال صرف يخدم مصالح الأفراد دون المجتمع.
الموضوع الثالث: التحقيق في قضايا الجريمة المنظمة: قدم هذا الموضوع اللواء الدكتور محمد الأمين البشرى، عميد مركز الدراسات والبحث بأكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الذي تناول الآراء المختلفة حول تعريف مصطلح الجريمة المنظمة مركزاً على عناصر الجريمة المنظمة وسماتها التي ينبغي بيانها للمحققين.
الموضوع الرابع: المنظور الاقتصادي والتقني والجريمة المنظمة: قدم الموضوع الدكتور ذياب البدانية، رئيس قسم العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات العليا بأكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، وتناول الباحث بيان أهمية التطور الاقتصادي والتقني وانعكاساتها على الجريمة المنظمة بتوظيف التقنية كأداة للجريمة المنظمة وكهدف من أهدافها. كما ركز الباحث على إمكانية استخدام التقنيات في مكافحة الجريمة المنظمة ومتابعتها وضبطها. استعرض الباحث تطور الجريمة المنظمة وتنظيماتها ومخاطرها، كما بين الوضع الراهن واحتمالات المستقبل على ضوء التطور التقني المحتمل في مجال الحاسب الآلي والإنترنت والعولمة الاقتصادية والتي من المحتمل أن تساعد على انتشار الجريمة المنظمة عبر الحدود الدولية.
الموضوع الخامس: اتجاهات الجريمة المنظمة في آسيا والتدابير المتخذة لمكافحتها: قدمت هذه الورقة البروفسورة توموكو أكاني الأستاذة بمعهد الأمم المتحدة لآسيا والشرق الأقصى لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين.
تناولت الورقة تعريف الجريمة المنظمة وحددت أنواع المنظمات العاملة في مجال الجريمة المنظمة وهي: المافيا، ولاكوسا نوسترا، وبوريوكودان، والمثلث الصيني، والكارتل الكولومبية.
أشارت الباحثة إلى أنشطة هذه المنظمات مع التركيز على "الياكوزا" أو "البوريوكودان" بالتفصيل وعرضت تاريخ الياكوزا في اليابان منذ عهد الإمبراطورية القديمة حيث كانت أنشطتهم تنحصر في الممارسات السرية في مجال القمار والدعارة وغيرها.
الموضوع السادس: الجريمة المنظمة في المملكة المتحدة والدول الأوروبية -الاتجاهات الرئيسية والتدابير المتخذة لمكافحتها: (تجارب عملية).
قدم الموضوع المفتش جون فرانكس المحقق بالوكالة الوطنية للاستخبارات الجنائية في بريطانيا، موضحاً أنماط الجريمة المنظمة في بريطانيا ودول أوروبا الغربية، مشيراً إلى انتشار الظاهرة في الآونة الأخيرة خاصة وسط البريطانيين بعد أن كانت في الماضي قاصرة على البريطانيين من الأصول الكولومبية والآسيوية والمهاجرين من شرق آسيا. ركز الباحث في ورقته على تعريف الجريمة المنظمة في القوانين الأوروبية وتحديد أنماطها وأساليب ارتكابها. كما أوضح الباحث مضاعفات خطورة الظاهرة في ظل المتغيرات التي حدثت في أوروبا وبعد -تفكك دول أوروبا الشرقية، حيث أصبحت عصابات المافيا الروسية وعصابات من دول البلقان تعزو بريطانيا ودول أوروبا الغربية. كما استعرض الباحث عدداً من نماذج الجريمة المنظمة موضحاً أساليبها الإجرامية والإجراءات التي اتخذت لاكتشافها بالتعاون مع الدول المجاورة.
كما قدم شرحاً لأنواع عصابات الجريمة المنظمة المهاجرة إلى بريطانيا ودول أوروبا الغربية من تركيا وغرب أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وما تجلبه تلك العصابات المنظمة من أنماط مستحدثة وأساليب احتيالية بالغة الخطورة يروح ضحية لها عدد من الأبرياء من السواح ورجال الأعمال العرب والآسيويين الذين يتخذون من بريطانيا وأوروبا محوراً لأعمالهم التجارية.
تناول الباحث بالعرض والتحليل نماذج من الجرائم المنظمة التي أسهم في التحقيق فيها موضحاً التقنيات التي استخدمت في تنفيذها والأساليب الشرطية التي نجحت في حل طلاسهما ودور التعاون الأمني الجديد الذي استحدث في بريطانيا عام 1998م، وأطلق عليه الوكالة الوطنية للاستخبارات المحلية والإقليمية والدولية لمواجهة الجريمة المنظمة عبر الحدود الدولية. كما قدم الأدلة التي تؤكد نجاح الجهاز الجديد وذلك بعرض إحصاءات عن إنجازات الجهاز وخططه العلمية المتقدمة.
وخلص الباحث إلى صورة التعاون الأمني العربي الأوروبي والبريطاني على وجه الخصوص لوجود علاقات اقتصادية متداخلة بين أوروبا والشرق الأوسط قد تجد الجريمة المنظمة فيها مرتعاً خصباً?
موضوع: الجريمة المنظمة 
الأحد مايو 10, 2009 2:13 pm
